الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **
ومن الناس من غرته الدنيا، فقال: النقد خير من النسيئة، والدنيا نقد، والآخرة نسيئة، وهذا محل التلبيس، فإن النقد لا يكون خيراً من النسيئة، إلا إذا كان مثل النسيئة، ومعلوم أن عمر الإنسان بالإضافة إلى مدة الآخرة ليس بجزء من ألف جزء إلى أن ينقطع النفس، وإنما أراد من قال: النقد خير من النسيئة، إذا كانت النسيئة مثل النقد، وهذا غرور الكفار.فأما ملابسو المعاصي مع سلامة عقائدهم، فإنهم قد شاركوا الكفار في هذا الغرور، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة، إلا أن أمرهم أسهل من أمر الكفار، من جهة أن أصل الإيمان يمنعهم من عقاب الأبد.ومن العصاة من يغتر، فيقول: إن الله كريم، وإنما نتكل على عفوه، وربما اغتروا بصلاح آبائهم.وقد قال العلماء: من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف شيئاً هرب منه، ومن رجا الغفران مع الاصرار، فهو مغرور.وليعلم أن الله تعالى مع سعة رحمته شديد العقاب، وقد قضى بتخليد الكفار في النار، مع أنه لا يضره كفرهم، وقد سلط الأمراض والمحن على خلق من عباده في الدنيا، وهو سبحانه قادر على إزالتها، ثم خوفنا من عقابه، فكيف لا نخاف؟! فالخوف والرجاء سائقان يبعثان على العمل، وما لا يبعث على العمل فهو غرور. يوضح هذا أن رجاء أكثر الخلق يحملهم على البطالة، وإيثار المعاصي.والعجب أن القرن الأول عملوا وخافوا، ثم أهل هذا الزمان أمنوا مع التقصير واطمأنوا، أتراهم عرفوا من كرم الله تعالى ما لم يعرف الأنبياء والصالحون.ولو كان هذا الأمر يدرك بالمنى، فلم تعب أولئك وكثر بكاؤهم؟! وهل ذم أهل الكتاب بقوله: ويقع الاغترار في الأغلب في حق أربعة أصناف:العلماء، والعباد، والمتصوفة، والأغنياء. ومن سرته حسنته وساءته سيئته، فهو مرجو أمره، بخلاف من يزكى نفسه ويظن أنه من خيار الخلق. فهذا غرور الذين حصلوا العلوم المهمة، فكيف بالذين قنعوا من العلوم بما لا يهمهم وتركوا المهم.فمنهم من اقتصر على علم الفتاوى فى الحكومات والخصومات وتفاصيل المعاملات الدنيوية الجارية بين الخلق لصلاح المعايش، وربما ضيعوا الأعمال الظاهرة وارتكبوا بعض المعاصي من الغيبة والنظر إلى ما لا يحل، والمشى إلى ما لا يجوز، ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والحسد والرياء وجميع المهلكات، فهؤلاء مغرورون من وجهين: أحدهما من حيث العمل، والآخر من حيث العلم.ومثالهم مثال المريض إذا تعلم نسخة الدواء واشتغل بتكراره وتعليمه، لا بل مثلهم مثل من به علة البرسام وهو مشرف على الهلاك، فاشتغل بتعلم دواء الاستحاضة، وجعل يكرر ذلك، وذلك غاية الغرور.وسبب غروره ما سمع فى النقل من تعظيم الفقه، ولم يدر أن الفقه هو الفقه عن الله تعالى، ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة، ليستشعر القلب الخوف ويلازم التقوى.وقد قال الله تعالى: المعاملات، وحفظ الأبدان بالأموال، ودفع القتل والجراحات والمال فى طريق الله تعالى آلة، والبدن مركب.وإنما العلم المهم معرفة سلوك الطريق، وقطع عقابات القلب التي هي من الصفات المذمومة، فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى.ومثال من اقتصر على ذلك، كمثل من اقتصر فى سلوك الحج على علم خرز الراوية والخف، ولا شك أنه لابد من ذلك: ولكن ليس من الحج فى شئ.ومن هؤلاء من اقتصر على علم الخلاف، ولم يهمه إلا طريق المجادلة، والإلزام، والإفحام، ودفع الحق لأجل الغلبة، فهو أسوأ حالاً ممن ذكر قبلهم، وجميع دقائق الجدل فى الفقه بدعة لم يعرفها السلف.وأما أدلة الأحكام، فيشتمل عليها علم المذهب، وهى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.وأما حيل الجدل، من الكسر، والقلب، وفساد الوضع والتركيب، والتعدية فإنما أبدعت لإظهار الغلبة والإفحام.وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة فى الأهواء، والرد على المخالفين.ثم هؤلاء طائفتان: ضالة، ومحقة، فالضالة التي تدعو إلى غير السنة، والمحقة التي تدعو إلى السنة، والغرور شامل لجميعهم.أما الضالة، فاغترارها ظاهر، وأما المحقة فاغترارها من حيث إنها ظنت أن الجدال أهم الأمور، وأفضل القربات فى دين الله تعالى، وزعمت أنه لا يتم لا حد دينه ما لم يبحث، وأن من صدق الله ورسوله من غير تحرير دليل، فليس بكامل الإيمان، فلهذا الظن الفاسد قطعوا أعمارهم فى تعلم الجدل والبحث عن المقالات، وعميت بصائرهم، فلم يلتفتوا إلى القرن الأول، وأن النبى صلى الله عليه وآله وسلم شهد لهم بأنهم خير الخلق، وأنهم قد أدركوا كثيراً من البدع والهوى، فلم يجعلوا أعمارهم ودينهم عرضاً للخصومات والمجادلات، ولم يشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم، بل لم يتكلموا فيه إلا لضرورة رد الضلال، فان رأوه مصراً على بدعته هجروه من غير مماراة ولا جدل.وقد روى فى الحديث: ومنهم من يتوسوس فى إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها، فلا يزال يحتاط فى التشديدات، والفرق بين الضاد والظاء فوق الحاجة، ونحو ذلك، بحيث يهتم بذلك حتى لا يتفكر فيما سواه، ويذهل عن معنى القرآن والاتعاظ به، وهذا من أٌقبح أنواع الغرور فان الخلق لم يتكلفوا من تحقيق مخارج الحروف فى تلاوة القرآن إلا بما جرت به العادة فى الكلام.ومثال هؤلاء مثال من حمل رسالة إلى سلطان، فأخذ يؤدى الرسالة بالتأنق فى مخارج الحروف وتكراره، وهو غافل عن مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس، فما أحراه بالطرد والتأديب.وفرقة أخرى اغتروا بقراءة القرآن، فهم يهذونه هذاً، وربما ختموا فى اليوم مرتين، فلسان أحدهم يجرى به وقلبه يتردد فى أودية الأمانى، ولا يتفكر فى معاني القرآن ولا يتعظ بمواعظه، ولا يقف عند أوامره ونواهيه، فهذا مغرور يظن أن المقصود من القرآن التلاوة فقط.ومثال ذلك، مثال عبد كتب إليه مولاه كتاباً يأمره فيه وينهاه، فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به، بل اقتصر على حفظه وتكراره، ظاناً أن ذلك هو المراد منه، مع مخالفته أمر مولاه ونهيه.ومنهم من يلتذ بصوته بالقرآن، معرضاً عن معانيه، فينبغي أن يتفقد قلبه فيعرف هل التذاذه بالنظم، أو بالصوت، و بالمعاني. وفرقة أخرى اغتروا بالصوم وأكثروا منه، وهم لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة والفضول، ولا بطونهم من الحرام عند الإفطار، ولا خواطرهم عن الرياء.ومنهم من اغتر بالحج، فيخرج إليه من غير خروج عن المظالم، وقضاء الديون، واسترضاء الوالدين، وطلب الزاد الحلال، وقد يفعلون ذلك بعد سقوط فرض الحج، ويضيعون فى الطريق العبادة والفرائض ويعجزون عن طهارة الثوب والبدن، ولا يحترزون من الرفث والخصام، وهم مع ذلك يظنون انهم على خير وهم مغرورون. وفرقة أخرى أخذوا فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ونسوا أنفسهم.ومنهم من يؤم فى مسجد، ولو تقدم عليه أورع منه وأعلم، ثقل عليه.ومنهم من يؤذن ويظن أن ذلك لله، ولو أذن غيره فى غيبته، أشتد عليه ذلك وقال: قد زاحمني فى مرتبتي.ومنهم من يجاور بمكة أو المدينة وقلبه متعلق ببلاده، وقول الناس: فلان مجاور بمكة أو المدينة، ثم إنه يجاور ويطمع فى أوساخ الناس، وقد يجمع ذلك ويشح به ويجتمع له جملة من المهلكات. وما من عمل إلا وفيه آفات، فمن لم يعرفها وقع فيها، ومن أراد أن يعرفها، فلينظر فى كتابنا هذا، فينظر فى آفات الرياء الحاصل فى العبادات من الصوم والصلاة وفى جميع القربات فى الأبواب المرتبة فى هذا الكتاب، وإنما الغرض الآن الإشارة إلى مجامع ما سبق. وفرقة أخرى زهدت فى المال، وقنعت بالدون من اللباس والطعام، وقنعت من المسكن بالمساجد، فظنت أنها أدركت رتبة الزهاد، وهم مع هذا شديدو الرغبة فى الرياسة والجاه، فقد تركوا أهون الأمرين وباؤوا بأعظم المهلكين.وفرق أخرى حرصت على النوافل، ولم تعتن بالفرائض، فترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى وصلاة الليل، ولا يجد للفريضة لذة. ولا يحرص على المبادرة إليها فى أول الوقت، وينسى قوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: الصنف الثالث: المتصوفة والمغرورون منهم فرق: فرقة منهم اغتروا بالزي والنطق والهيئة، فتشبهوا بالصادقين من الصوفية بالظاهر، ولم يتعبوا أنفسهم فى المجاهدة والرياضة، ثم هم يتكالبون على الحرام والشبهات وأموال السلاطين ويمزق بعضهم أعراض بعض إذا اختلفوا فى غرض، وهؤلاء غرورهم ظاهر.ومثالهم مثال عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من المقاتلين تثبت أسماؤهم فى الديوان، ويقطع كل واحد منهم قطراً من أقطار الأرض، فاشتاقت نفسها إلى ذلك، فلبست درعاً ووضعت على رأسها مغفراً، وتعلمت من رجز الأبطال أبياتاً، وتعلمت زيهم وجمع شمائلهم، ثم توجهت إلى العسكر، فكتب اسمها فى ديوان الشجعان، فلما حضرت فى ديوان العرض، أمرت بتجريد المغفر والدرع لينظر ما تحته وتمتحن بالمبارزة، فلما جردت إذا هي عجوز ضعيفة زمنة، فقيل لها: جئت تستهزئين بالملك وأهل حضرته، خذوها وألقوها بين أيدي الفيل، فألقيت إليه.فهكذا يكون حال المدعين التصوف فى القيامة إذا كشف عنهم الغطاء، وعرضوا على الحاكم الأكبر الذي ينظر إلى القلب لا إلى المرقعات والزي.وفرقة أخرى ادعت علم المعرفة، ومشاهدة الحق، ومجاورة المقامات والأحوال، والوصول إلى القرب، ولا يعرفون من تلك الأمور إلا الأسماء، فترى أحدهم يرددها ويظن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين، فهو ينظر إلى الفقهاء والمحدثين وأصناف العلماء بعين الازدراء، فضلاً عن العوام، حتى إن بعض العامة يلازمهم الأيام الكثيرة، ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة، ويرددها كأنه يتكلم عن الوحى، ويحتقر فى ذلك جميع العلماء والعباد، ويقول: إنهم محجوبون عن الله، وإنه هو الواصل إلى الحق، وإنه من المقربين، وهو عند الله من الفجار المنافقين، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين، لم يحكم علماً ولم يهذب خلقاً، ولم يراقب قلباً سوى اتباع الهوى وحفظ الهذيان.وفرقة منهم طووا بساط الشرع، ورفضوا الأحكام، وسووا بين الحلال والحرام، وبعضهم يقول: إن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي؟وبعضهم يقول: لا قدر للأعمال بالجوارح، وإنما النظر إلى القلوب، وقلوبنا والهة بحب الله تعالى، وواصلة إلى معرفته، وإنما نخوض فى الدنيا بأبداننا، وقلوبنا عاكفة فى الحضرة الربانية، فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب، ويزعمون انهم قد تراقوا عن رتبة العوام، واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية، وأن الشهوات لا تصدهم عن طريق الله تعالى لقوتهم فيها، ويرفعون أنفسهم عن درجة الأنبياء، لأن الأنبياء عليهم السلام كانوا يبكون على خطيئة واحدة سنين. وأصناف غرور أهل الإباحة لا تحصى، وكل ذلك أغاليط ووساوس، خدعهم الشيطان بها، لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم، من غير اقتداء بشيخ صاحب علم ودين صالح للاقتداء به.ومنهم فرقة أخرى جاوزوا هذه الطريق، واشتغلوا بالمجاهدة، وابتدؤوا بسلوك الطريق وانفتح لهم باب المعرفة، فلما استنشقوا مبادئ ريح المعرفة، تعجبوا منها وفرحوا بها وأعجبهم غريبها، فتقيدت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيها، وكيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده عن غيرهم، وكل ذلك غرور، لأن عجائب طريق الله سبحانه وتعالى ليس لها نهاية. ولو وقف مع كل أعجوبة وتقيد بها، قصرت خطاه وجره الوصل إلى القصد، وكان مثاله مثال من قصد ملكاً، فرأى على بابه روضة فيها أزهار لم يكن رأى مثلها، فوقف ينظر إليها حتى فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك.
الصنف الرابع: أرباب الأموال وهم فرق: ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس ويكتبون أسماءهم عليها ليتخلد ذكرهم، ويبقى بعد الموت أثرهم، ولو كلف أحدهم أن ينفق ديناراً ولا يكتب اسمه فى الموضع الذي أنفق عليه لشق عليه، ولولا أنه يريد وجه الناس لا وجه الله ، لما شق عليه ذلك، فإن الله يطلع عليه، سواء كتب اسمه أو لم يكتبه.بعضهم يصرف المال فى زخرفة المساجد، وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة للمصلين، فإن المقصود من الصلاة الخشوع وحضور القلب، وذلك يفسد قلوب المصلين.فأما إن كان المال الذي صرفه فى ذلك حراماً، كان أشد فى الغرور.قال مالك بن دينار رحمه الله: أتى رجل مسجداً، فوقف على الباب وقال، مثلى لا يدخل بيت الله، فكتب فى مكانه صديقاً.فبهذا ينبغي أن تعظم المساجد، وهو أن يرى تلويث المسجد بدخوله فيه بنفسه جناية على المسجد، لا أن يرى تلويث المسجد بالحرام، أو بزخرف الدنيا منه على الله تعالى، فغرور هذا من حيث أنه يرى المنكر معروفاً.وفرقة أخرى يحفظون الأموال ويمسكونها بخلاً، ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا تحتاج إلى نفقة المال، كالصيام والصلاة وختم القرآن، وهم مغرورون لأن البخل مهلك، وقد استولى على قلوبهم، فهم محتاجون إلى قمعه بإخراج المال، فقد اشتغلوا عنه بفضائل لا تجب عليهم.ومثالهم مثال من دخلت فى ثوبه حية، فاشتغل عنها بطبخ السكنجبين لتسكن به الصفراء ومنهم من لا تسمح نفسه إلا بأداء الزكاة فقط، فيخرج الرديء من المال، أو يعطى من الفقراء من يخدمه، ويتردد فى حاجاته، أو من يحتاج إليه فى المستقبل أو من له فيه غرض.ومنهم من يسلم من ذلك إلى بعض الأكابر ليفرقه، لينال بذلك عنده منزلة ويقوم بحوائجه، وكل ذلك مفسد للنية وصاحبه مغرور، لأنه يطلب بعبادة الله تعالى عوضاً عن غيره.وفرقة أخرى من أرباب الأموال وغيرهم، اغتروا بحضور مجالس الذكر، وظنوا أن نفس الحضور يغنيهم عن العمل والاتعاظ، وليس كذلك، لأن مجلس الذكر إنما فضل لكونه مرغباً فى الخير، وكل ما يراد لغيره إذا لم يوصل إلى ذلك الغير فلا وقع له، وربما سمع أحدهم التخويف، فلا يزيد على قوله: يا سلام سلم، أو أعوذ بالله، ويظن أنه قد أتى المقصود.ومثال هذا كمثل مريض يحضر عند الأطباء فيسمع ما يجرى، أو الجائع يحضر عند من يصف له الأطعمة اللذيذة، ثم ينصرف فلا يغنى ذلك عنه. فكذلك سماع وصف الطاعات دون العمل بها، فكل وعظ لم يغير منك صفة تتغير بها أفعالك، فهو حجة عليك. فإن قيل: فما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يكاد يخلص منه.فالجواب: أن مدار أمر الآخرة على معنى واحد، وهو تقويم القلب، ولا يعجزعن ذلك إلا من لم تصدق نيته، فإن الإنسان لو اهتم بأمر الآخرة كما يهتم بأمر الدنيا لنالها. وقد فعل ذلك السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان العقل: وهو النور الأصلي الذي يدرك به الإنسان حقائق الأشياء. والمعرفة: التي يعرف بها الإنسان نفسه وربه ودنياه وأخرته.وفى كتاب المحبة، وشرح عجائب القلب، والتفكر، وكتاب الشكر إشارات إلى وصف النفس، ووصف جلال الله سبحانه.ويستعين على معرفة الدنيا والآخرة بما ذكر فى كتاب "ذم الدنيا" وكتاب "ذكر الموت"، فإذا حصلت هذه المعارف، ثار من القلب بمعرفة الله تعالى حب الله، وبمعرفة الآخرة حب شدة الرغبة فيها، وبمعرفة الدنيا شدة الرغبة عنها، فيصير أهم أموره إليه ما يوصله إلى الله تعالى، وينفعه فى الآخرة، وإذا غلبت هذه الإرادة على قلب، صحت نيته فى الأمور كلها، واندفع عنه كل غرور.فإذا غلب حب الله تعالى على قلبه لمعرفته به وبنفسه، واحتاج إلى الأمر الثالث وهو العلم، ونعنى به العلم بكيفية سلوك الطريق إلى الله تعالى وآفاتها، والعلم بما يقربه منه ويهديه، وجميع ذلك فى كتابنا هذا.فيعرف من ربع العبادات والعادات ما هو محتاج إليه، وما هو مستغن عنه، ويتأدب بأدب الشرع.ويعرف من ربع المهلكات جميع العقبات المانعة من طريق الله تعالى، وهى الصفات المذمومة فى الخلق.ويعرف من ربع المنجيات الصفات المحمودة التي لابد أن توضح خلفاً من المذمومة بعد محوها، فإذا أحاط بجميع ذلك، أمكنه الحذر من الأنواع التي أشرنا إليها من الغرور، والله أعلم. وإذا فعل جميع ذلك ينبغي أن يكون خائفاً أن يخدعه الشيطان، ويدعوه إلى الرياسة ويخاف عليه أيضاً من الأمن من مكر الله تعالى.ولذلك قيل: والمخلصون على خطر عظيم (3)
|